الأربعاء، 6 يوليو 2022

فتاة البرتقال

 

الرواية تدور أحداثها في النرويج وبالتحديد العاصمة أوسلو في عام 2001 وتحكي عن الفتى المراهق جورج ذو الخمسة عشر عامًا والذي يعرف من أسرته بوجود رسالة خفية من والده جون الذي توفي قبل 11 عامًا ويتم اكتشافها بشكل غريب وهي موجهة له فقط بقراءتها قبل أي شخص أخر على أن يجيب في نهايتها عن سؤال محوري.

أما الرسالة فهي تحكي عن قصة التقاء والده بفتاة صاحبة وجه سنجابي ذات رداء مميز بحمولة كبيرة من البرتقال في كيس ورقي في موقف غريب ولكن ما إن جذبته حتى تركته في لحظة وتركت عليه وقعًا مهيمنًا جعله شغوف بها ويتطلع إلى لقائها فتبدأ رحلته في البحث عنها واللقاءات الفاصلة المفاجئة المقتضبة التي جمعت بينهما وكانت في كل مرة ترمي بسيل من الألغاز خلفها وتقوده إلى سبر كل الاحتمالات الممكنة في سبيل لقائها والسيناريوهات المحتملة في صياغة طبيعتها وحياتها.

أسلوب السرد في الرواية عبارة عن قصة داخل قصة فيتنقل ما بين الحكاية التي في الرسالة وانعكاساتها على أفكار جورج وحديث نفسه عما يقرأه ومحاولة فك الألغاز مع والده والتفكر في طرحه والإجابة على أسئلته ومعه كذلك نطلع على أفراد أسرته وتقديمه لهم.

تقديم الرواية سلس وبسيط وخالي من العقد ويدخل في صلب الحبكة مباشرة مما لا يثقل عليك المتابعة في قراءتها ويشدك اللغز البدائي على أنه قد يبدو لوهلة لمن يقرأ الرواية في صفاحتها الأولى أنها كليشي واستعراض مجرد لعلاقة ثنائية ولكن مع تقدم الصفحات وخاصة مع دخول النصف الثاني من الرواية حتى تتكشف بين طيات الكتاب عن عمقها والأسئلة التي تطرحها والمشاعر التي تخالجك معها ويتنقل بك بين لحظات الفرح والخيبة والحزن والترقب والتفكر. علاقة تنشأ من خلالها نظرة فلسفية عن الكون والموت والحياة والذكريات يتداخل ويختلط معها العلم والفن في مقاربات ومناظرات كثيرة.   

عن بصيص الأمل في محاولات استرجاع ذكريات الطفولة فلا شيء ننساه من ذكريات الحياة أكثر مما ننسى قبل سن الرابعة، عن تضخم الأفكار في أذهاننا نتيجة الخوف والهلع، عن ضجيج الاحتمالات الذي يستنزفنا، عن المقاربات التي نحتاجها في الحياة لمحاولة فهم مشاعر غيرنا ولا تكتمل إلى بمجرد أن نجد أنفسنا مكانهم، عن الرغبة في استدامة النشوة والابتعاد عن رتابة الحياة، عن تشكل الأساطير وإرساء قواعد الحكايات، عن كيف تصبح أشياء بسيطة رموزا غزلية، عن التنظير العلمي الذي قد يفقدنا شعور الدهشة والـتأمل تجاه الظواهر والأشياء ونصبح أسرة لهذه التفسيرات دون محاولة تفكيكها مرة أخرى، عن الكون واكتشافاته، عن محاولة تفسير الكون ومعايشته من خلال علاقتك بإنسان، عن الموسيقى ونوتات بيتهوفن، عن الأبوة وعن خيار الحياة وكل ذلك لا يخلو من تعابير وعبارات وتشبيهات رائعة بترجمة متينة تشعر أنها أضافت للرواية.

ورغم مفاجأتي بعد أن انتهيت من الرواية وتعرفت على مؤلفها ولكن لا عجب أنها كانت تحمل كل ذلك بشكل بسيط وسلس وممتع فهو جوستاين غاردر ولد عام 1952 في أوسلو، أستاذًا في الفلسفة والفكر وتاريخ الأفكار واللاهوت ويعمل متفرغًا للكتابة. وهنا بيت القصيد حيث أنه صاحب الرواية الشهيرة "عالم صوفي" عن تاريخ الفلسفة والتي تعتبر لدى الكثير خير مدخل للفلسفة في قالب مشوق ومسلي وترجمت إلى أكثر من 40 لغة وبيع منها ما يقارب 30 مليون نسخة وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي ولعبة فيديو وأكسبته التقدير والاحترام لدى النقاد والقراء على حدٍ سواء وفي روايته فتاة البرتقال يستمر في منحاه الفلسفي.

أصدرت الرواية سنة 2003 وتقع في 200 صفحة من المترجم الجزائري مدني قصري والذي كم قيل عنه يتعامل مع النص الأصل باعتباره لوحة فنية يعيد إبداعها بريشته. كانت أول عمل روائي يقوم بترجمته وسبب ذلك كما قال لجريدة الجريدة الكويتية هي أنها نابع من الأسئلة الوجوديّة التي يطرحها مؤلفها: "ما هو الإنسان؟ والكون؟ إلى أين يمضي العالم؟ إضافة إلى الأسئلة الخالدة التي يلفّها الغموض والقلق والحيرة، تلك التي خاض فيها الفلاسفة من غير أن يجدوا لها إجابات شافية، والتي ما فتئت تشغل العقل البشريّ منذ القِدَم، كالعدم والوجود، والزمان والمكان، والعوالم الموازية، والحياة ما بعد الموت، التي لا ندركها إلا بالوعي خارج الحواس."

أخيرًا لم يكن على البال ولا في الحسبان عندما وقعت على الرواية بين مجموعة من الكتب لشقيقتي أني سوف أستغرق معها وأشعر أنها عوضتني عن قحط قراءتي لعام 2021.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق